وبيـَّنه له، و(اهتدى): استرشد، (استـَهدَى) فلان: طلب الهُدًي،
و(الهُدَى): الرشاد، و(الهادي): من أسماء الله الحسنى، و(الهادي):الدليل.
ولقد وردت مادة(هَدَى) ومشتقاتها في القرآن الكريم نحو ثلاثمائة وسبعة عشر
(317) مرة.
في كتاب الله تعالي المقروء، والمتعبد بتلاوته، ورد سؤال فرعون: "قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى"(طه:49) فجاء رد نبي الله "موسى" عليه السلام: "قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى"(طه:50). والمتأمل
في الكون.. "كتاب الله تعالي المنظور" يجد كماً هائلاً من المشاهد تدل ـ
ليس فقط ـ علي نعمة الإيجاد من عدم (الخلق) لما يزيد عن (مليون) نوع من
الكائنات الحية، متنوعة الصفات والخصائص والوظائف والتراكيب والأشكال
والألوان الخ. بل أيضاً علي (هداية) الله تعالي لها كي تؤدي دورها ووظيفتها
في الحياة علي الوجه الأنسب والأفضل دوماً. إنك ـ بتأملك هذا ـ لابد
واجداً لكل أمر غاية، ولكل شيء أجلاً، ولكل حادث موعداً، ولكل قدر حكمة: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ"(القمر:49).
لقد أفاض كثيرون، وتعددت وتنوعت الدراسات في هذا الشأن، والسطور التالية
إنما هي غيض من فيض تلك الصور الدالة علي بديع الهداية الربانية للكائنات
الحية.
صور من عالم الأسماك
- تظل هجرة الأسماك، ثاني كبار
المهاجرين بعد الطيور، وهداية الله تعالي لها حين عودتها أو عودة صغارها
فيما بعد إلي مواطنها الأصلية مثار دهشة بالغة من المختصين من
العلماء.فأسماك الأنقليس أو الحنكليس
(رتبة Myxinoided) تقطع بين شهري يناير ومارس من كل عام ألاف الأميال ـ
مهاجرة من مختلف الأنهار والبحيرات العذبة عبر العالم ـ إلي أعماق المحيط
الأطلسي (350-450 متراً) لتضع بيضها وتموت. بيد أن صغارها التي لا تعرف
شيئأ عن موطن أمهاتها، تعود أدراجها إليها قاطعة نحو 5000 كم في رحلة طويلة
وعجيبة ورائعة ولم يحدث قط أن ضلت الأنواع الأوربية إلي المياه الأمريكية
أو العكس ، فمن غير الله تعالي قد "هداها" سبلها؟.
صورة لسمك الحنكليس
- هناك الهجرة الشهيرة ـ من البحار في
المياه العذبةـ لأسماك السلمون البالغة لوضع البيوض (رتبة Salmoni
formes)، والتي تطالعنا بها الصور التلفازية بقفزاتها ـ تصل إلي 3-4 متر ـ
بالغة الرشاقة والروعة والمرونة. تراها باذلة الجهد الكبير ضد مساقط المياه
العاتية، وضد مشاكل سوء التغذية لا يصدها صاد عن غايتها واستمرار نسلها.
ذلك النسل من السلمون الصغير الذي يعود ببطء، وفي اتجاه تيار الماء، نزولا
إلي البحر في رحلة قد تستمر أربع سنوات. لكنه بعد بلوغه يعود ثانية لنبع
النهر العذب الذي فقس فيه سابقاً ليعيد دورة حياة جديدة. فمن غير الله
تعالي قد "ألهمها" ذلك؟.
- سمكة "أبو شوكة" (طولها 5-6 سم)،
لها تصرفات "غريبة"، فهو من بين قيل من الأسماك التي تصنع "عشاً" لها.
فللذكر براعة فائقة في بناء عش جحر من الرمل والحشائش والنباتات في المياه
الضحلة للبيض الذي تضعه الأنثى (300 بيضة). كما "لاصطياد" الضحية بطريقة
"مبتكرة" "هدي الله تعالي بعض الأسماك لتكوين "أعضاء ضوئية" تتألق في
الظلام وتبرز منها "أشعة ضوئية" تظهر فوق خطمها، فيجتذب الأسماك الصغيرة
نحو فكين فاغرين مستعدين لالتهامها.
صور من عالم البرمائيات والزواحف
- الضفدع "الحداد"، بل "صانع الفخار"
في (أمريكا الجنوبية)، يصنع إناء من الطين (10X30سم) علي مدي 2-3 ليالي،
لينادي بعدها علي أنثاه لتضع البيض ـ في آمان ـ داخله.
- من الساحل البرازيلي تهاجر سلاحف البحر الخضراء البرازيلية (Chelonia mydas)
للتكاثر قاطعة مسافة 2500 كم عابرة المحيط الأطلسي نحو السواحل الإفريقية،
وعند جزيرة Ascension تضع بيضها ومن ثم تعود إلي موطنها دون أن تضل
طريقها. ويحار العلماء في تفسير تلك الرحلة العجيبة، فهل تترك السلحفاة
رائحة معينة تهتدي بها حال عودتها، أم تسترشد بالتضاريس البحرية، أم بزاوية
معينة للشمس بالنسبة للأرض، أم ببوصلة مغناطيسية؟، أم هو "طريق آمن"؟. من غير الله تعالي هداها سبلها؟.
صور للسلحفاة البرازيلية الخضراء
- للحرباء مهارة
فائقة في التنكر والتخفي وتغيير لونها (لتصبح بلون صخرة أو جذع شجرة الخ)،
ورزقها الله تعالي عينين تتحركان مستقلتين عن بعضهما البعض.
صور من عالم الحشرات
- الحشرات من أكثر الأحياء انتشارا
علي سطح الأرض فقد ألهمها الله تعالي مقدرة علي البقاء والتأقلم والتكوين
البنيوي والتكاثر ومنازلة الخصوم الخ. ينخر "الزنبور" بإبرته السامة في
المركز العصبي "للجندب النطاط" بحيث "يخدره"، ويُفقده وعيه، فلا يستطيع
الفرار، كما لا يسبب هلاكه، فيبقي لحما محفوظا تبيض عليه الأنثى، ومن ثم
تغطي الحفرة وتموت. بعد أن تكون قد وفرت الغذاء لصغارها قبل أن يولدوا،
وهكذا الحال مع كل الزنابير منذ أن خلقهم الله تعالي ، فأعظم به من خالق سبحانه وتعالي.
- تماماً في 24 مايو من بلوغه السنة
السابعة عشر من عمره، تري ذلك الجراد البالغ ـ في ولاية "نيو انجلاند"ـ
عادة ما يغادر شقوقه المظلمة تحت الأرض، فيظهر بالملايين في ذلك التوقيت .
- حشرة" أبي دقيق" عادة لا تتغذي علي
أوراق الكرنب، بل تختاره ـ دون غيره ـ لتضع عليه بيضها، ومن ثم تخرج
الديدان الصغيرة وتأكل من تلك الأوراق المناسبة لها، فمن أودع في تلك
الحشرة "مهارة" حسن اختيار الغذاء المناسب لديدانها؟.
- من الذي "هدي" البعوضة لقوانين
"ارشميدس" في الطفو، فنجدها تزود كل بيضة من بيوضها بكيسين من الهواء كي
تطفو بهما علي سطح الماء؟ (.
- للنحل والنمل في بناء بيوته المعقدة
الإنشاء، البالغة الدقة، ذات الغرف والدهاليز والمخازن والبدرومات، "هداية
ربانية" لقوانين الهندسة المعمارية. فضلا عن نظام العمل الاجتماعي
التعاوني المدهش في تلك الخلايا. فلسبعة أمتار قد يصل ارتفاع عش النمل
الأبيض، ونحو 30 ألف بيضة في اليوم من "الملكة"، وما سيتتبعه من بناء غرف
جديدة لتسع هؤلاء القادمين الجدد من النمل، فأي هداية وأي جهد وعمل دؤؤب
مبذول؟. وهذه حشرة "الترميت" الإفريقية تبني بيوتا كالقباب والتلال
والمسلات وتزودها بقنوات وفتحات خاصة كي يرتفع الهواء الساخن لأعلي ليحل
بدلا منه الهواء البارد من أسفل. إنه بين رائع من حيث تكييف الهواء Air
conditioningة.
صورة للخلايا التي يصنعها النحل وتظهر الهندسة السداسية العجيبة فتبارك الله أحسن الخالقين
- العناكب ليست حشرات لكونها تمتلك
ثمانية أرجل، وللحشرات ستة فقط، وجسم العناكب مكون من قسمين وليس ثلاثة،
لكن لا يغيب عن البال النسق البارع "لشبكة’" خيوط بيت العنكبوت "أقوي من
الفولاذ، ولزجة تلتصق بها الفرائس من الحشرات". تلك الخيوط تخرج من عضو
"المغزال" في مؤخرة الجسم. بيد أن بيت العنكبوت كبيت من أتخذ من دون الله
بل سلاحا"، فجراد الصحراء الذي يعيش في سورية والشرق الأدنى يتغذي علي
نبات Calotrpus procers الذي تحتوي أوراقه علي مادتين سامتين يريدهما
الجراد (دون سائر سميات النبات) للدفاع عن نفسه ضد أعدائه. وهو يترك منهما
مخزونا بجانب بيضه حتى تفقس حشراته الصغيرة
صورة لخرسنة القطب الشمالي ويظهر في الصورة السفلية مسار الهجرة السنوية من الشمال إلى الجنوب
فتجد " أسلحة" التي تدافع بهما عن نفسها .
صور من عالم الطيور
- يوجد ما يزيد عن (8000) نوع من
الطيور، فهل تعلم أفراخها الطيران أم إن هذه الخاصية "هداية" من الله
تعالي؟. أجري باحثون ألمان تجربة للإجابة عن مثل هذا السؤال، حيث وضعوا
صغار الحمام حديث الفقس في أنابيب ضيق بحيث لا تستطيع تحريك أجنحتها، وعند
بلوغها سنا معينة قاموا بإطلاقها فطارت علي الفور.
بيد أن سباع الطير ومن يصطاد في الهواء، تساعد صغارها "وتدربهم" ـ عبر
إلقاء قطع الطعام في الهواء ـ كي "يكتسبون" مهارة إتقان فن القنص في
الهواء.
- عبر فصول العام.. مازالت هجرة
الطيور، أكبر المهاجرين في الكائنات الحية، إلي حيث الدفء والغذاء، ووضع
الأعشاش، وهداية الله تعالي لها حين عودتها أو عودة صغارها بمفردهم فيما
بعد إلي موطنهم الأصلي، مثار اهتمام ودهشة بالغين من العلماء والمختصين . فعلي سبيل المثال خرسَنة القطب الشمالي Sterna paradisaea
تتكاثر في أقصي شمال أوربا وأمريكا وتهاجر في الخريف جنوبا إلي استراليا
وأفريقيا، حيث تبقي حتى فبرايرـ أبريل، ومن ثم تعود إلي أرض تكاثرها في
الشمال، في رحلة فريدة عجيبة لا تصدق، وتبلغ نحو 35.500 كم في السنة
الواحدة. فيما يلي جدول يوضح بعض أنواع الطيور المهاجرة، وأطوال أجسامها
(سم)، والمسافات التقريبية التي تقطعها في هجرتها(الكم):
لقد تعددت تفاسير العلماء "لحواس
التوجه"، ومدي الدقة في تحديد الاتجاه وأماكن الهجرة، ومن ثم العودة للموطن
الأصلي، وصولا للقول بوجود مادة تعمل "كمغناطيس طبيعي" يتوافق مع المجال
المغناطيسي للأرض.. ذهاباً وإيابا. إنها ـ من قبل ومن بعد ـ هداية الله
لمخلوقاته.
- كانت قد أجريت تجربة للتفريخ
الاصطناعي لبيض الدجاج، عبر إحاطته من جميع جوانبه بالحرارة المناسبة ولكن
دون تقليب، كما هدي الله تعالي الدجاجة لذلك. لكن مضي موعد الفقس دون خروج
الفراريج، وفشلت التجربة. ليعلم فيما بعد أن الدجاجة إنما تقلب بيضها منعاً
من ترسب المكونات الأولية للفرخ في الأجزاء السفلي منه، ولذا فهي لا تقوم
بتقليب البيض في اليوم الأول وكذا الأخير من فترة الحضانة، فمن هداها
لذلك؟.
- وإذا تركنا الدجاجة وهدايتها في
تقليب البيض، فمن الذي هدي الفروج ـ عند موعد فقسه ـ كي يكسر بيضته عند
أضعف أجزائها، ومن الذي هدي "العقاب المصري" كي يلتقط الحصى بمنقاره، ومن
ثم يرتفع عاليا كي يسقطهاـ بذكاء، وبخاصية من حدة بصر فائقةـ علي بيض
النعام العصي علي الكسر.
- يقف الطائر المسمي" مالك الحزين"
لوقت طويل في الماء، ساكناً هائما لا يأتي بحركات، ليقتنص ـ ببراعةـ
فريسته. ولأهمية الريش (كما المناقير
صورة لحيوان الوطواط
والأقدام) بالنسبة للطائر نري كثيراً
من الطيور تستحم في الماء أو (تُدحرج) نفسها فوق التراب، ومن ثم تبدأ في
عملية ترتيب وتمشيط ريشها ليبقي في حالة جيدة علي الدوام .
فمن علمها ذلك؟. أما الطائر الخياط (الهند)، وطيور الأكوام/ الديوك
البرية(استراليا)، وطيور السنونو، والخطاف، والرفراف وغيرهم فهم بناءون
عجيبون ، بارعون في بناء وإنشاء الأعشاش والمساكن بمواصفات و"أمان وتأمين" وحرفية، فمن علمهم تلك الحرفة المدهشة؟.
صور من عالم الثدييات
- ضمن مجموعة تصل إلي حوالي (2000)
نوع من الوطاويط، الحيوانات الثديية الوحيدة التي تطير، وهي تنشط ليلا
وتنام نهاراً، يوجد لدي الخفافيش آكلة الحشرات (Microchiropter) آذان كبيرة
نسبياً، وعيون صغيرة جداً، وطيات جلدية معقدة، وناميات علي أنوفها، يري
المختصون أنها أساسية لاهتدائها للطيران والتغذية في ظلمة الكهوف العاتية،
وذلك عبر رجع الصدى للموجات فوق الصوتية (السونار). ولقد هداه الله تعالي
لتحدد ـ كذلك بسمعهاـ ما إذا كانت هناك من حشرات تقف فوق الأغصان وأسلاك
البرق لتصطادها، متفادية العوائق في ذلك الظلام الدامس . كما يتميز "الدلفين" أيضا بحدة سمعه فهو يستطيع أن يعين موضع فريسته بواسطة تريد الصوت الذي "هداه" الله تعالي لاستعماله.
- "القندس".. "مهندس المملكة الحيوانية"
فهو بنّاء عجيب مدهش، هداه الله تعالي لإنشاء السدود والحفر والمساكن. يصل
ارتفاع السدود إلي أربعة أمتار ويزيد طولها عن 600 متر، وتشكل المياه خلفه
بركة كبيرة.
صورة لقندس يقوم بحمل غصن شجرة لبناء سده، وفي الأسفل سد صناعي أنشأه حيوان القندس الذي هو أقدم بناء للسدود عبر التاريخ
-ترحل الحيتان لمسافات طويلة وهداه
الله تعالي لسماع الأصوات تحت سطح الماء لمسافة 3 أميال، فيتعرف أفراد
السرب علي بعضه البعض، وعلي الظروف المحيطة .
- فصيلة القطط والكلاب
لها من "هداية" الله تعالي نصيب وافر، ففي "حواسها" المختلفة في التعرف
على البيئة المحيطة، واستكشافها، ومعرفة مخارجها وأماكن الهروب منها،
وبخاصة عندما تدخلها للمرة الأولى. فهي "مُعلِم ماهرٌ" في فنون الصيد
هكذا يُخبر رسولنا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم عن الخيل، لما لها
وظائف متعددة يكللها "هداية" الله تعالي لها في "ذكائها"، وفي "بنيانها"
الجسدي. :"والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها
جمال حين تـُريحون وحين تسرحون. وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه
إلا بشق النفس إن ربكم لرءوف رحيم. والخيل والبغال والحمير لتركبوا وزينة
ويخلق ما لا تعلمون" النحل:5ـ8. وجدير بالذكر أن للخيل شأناً رفيعاً في
التراث العربي والإسلامي، يذكر الجاحظ:" لم تكن أمة قط أشد عجباً بالخيل،
ولا أعلم بها من العرب".
- وللإبل ـ أيضاً ًـ مكانتها في التراث العربي الإسلامي، وتكفي إشارة القرآن الكريم للنظر وتأمل خلقة الله تعالي لها: "أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت"(الغاشية:17) وفي
هذا الشأن سودت كثير من الدراسات والمقالات. بيد أنه تجدر الإشارة هنا إلي
"هداية" الله تعالي لها في أنواعها وسلوكياتها، واقتصادياتها، وكيفية
تأقلمها مع بيئتها وظروف معيشتها، وذاكرتها القوية التي تعرف خط السير حتى
ولو مضت فيه منذ سنين، فضلاً عن مقاومتها للأمراض، وخصائص ونوعية لحومها،
وكمية ومكونات وفوائد ألبانها وأبوالها. كما إن بإمكان المرء أن يتعلم
الكثير من "صفاتها وطباعها" مثل: التحمل والصبر والعمل الدءوب والقناعة
والاقتصاد في المأكل والمؤونة، والادخار لما هو قادم، والعطاء حتى في اقسي
الظروف.
- مجموعة الحيوانات الرئيسة (الجيبون،
والأورانغ أوتان، والغوريلا، والشمبانزي الخ)، وهبها الله تعالي مقدرة
"عقلية"، ومستويات مرتفعة من "الذكاء"، و"الذاكرة الجيدة"، واستعداد كبير
"للتعلم والدربة"، ومقدرة رائعة علي "التقليد والمحاكاة".
- لعل المجال هنا لا يتسع لعرض الصور
العديدة والمتنوعة لهداية الله تعالي للإنسان،..مادياً ومعنوياً، جسداً
وروحاً، وكيف لا وهو "خليفة" الله تعالي في أرضه، والمكرم علي كثير من
مخلوقاته ـ جلت قدرته ـ :"وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي
وبيـَّنه له، و(اهتدى): استرشد، (استـَهدَى) فلان: طلب الهُدًي،
و(الهُدَى): الرشاد، و(الهادي): من أسماء الله الحسنى، و(الهادي):الدليل.
ولقد وردت مادة(هَدَى) ومشتقاتها في القرآن الكريم نحو ثلاثمائة وسبعة عشر
(317) مرة.
في كتاب الله تعالي المقروء، والمتعبد بتلاوته، ورد سؤال فرعون: "قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى"(طه:49) فجاء رد نبي الله "موسى" عليه السلام: "قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى"(طه:50). والمتأمل
في الكون.. "كتاب الله تعالي المنظور" يجد كماً هائلاً من المشاهد تدل ـ
ليس فقط ـ علي نعمة الإيجاد من عدم (الخلق) لما يزيد عن (مليون) نوع من
الكائنات الحية، متنوعة الصفات والخصائص والوظائف والتراكيب والأشكال
والألوان الخ. بل أيضاً علي (هداية) الله تعالي لها كي تؤدي دورها ووظيفتها
في الحياة علي الوجه الأنسب والأفضل دوماً. إنك ـ بتأملك هذا ـ لابد
واجداً لكل أمر غاية، ولكل شيء أجلاً، ولكل حادث موعداً، ولكل قدر حكمة: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ"(القمر:49).
لقد أفاض كثيرون، وتعددت وتنوعت الدراسات في هذا الشأن، والسطور التالية
إنما هي غيض من فيض تلك الصور الدالة علي بديع الهداية الربانية للكائنات
الحية.
صور من عالم الأسماك
- تظل هجرة الأسماك، ثاني كبار
المهاجرين بعد الطيور، وهداية الله تعالي لها حين عودتها أو عودة صغارها
فيما بعد إلي مواطنها الأصلية مثار دهشة بالغة من المختصين من
العلماء.فأسماك الأنقليس أو الحنكليس
(رتبة Myxinoided) تقطع بين شهري يناير ومارس من كل عام ألاف الأميال ـ
مهاجرة من مختلف الأنهار والبحيرات العذبة عبر العالم ـ إلي أعماق المحيط
الأطلسي (350-450 متراً) لتضع بيضها وتموت. بيد أن صغارها التي لا تعرف
شيئأ عن موطن أمهاتها، تعود أدراجها إليها قاطعة نحو 5000 كم في رحلة طويلة
وعجيبة ورائعة ولم يحدث قط أن ضلت الأنواع الأوربية إلي المياه الأمريكية
أو العكس ، فمن غير الله تعالي قد "هداها" سبلها؟.
صورة لسمك الحنكليس
- هناك الهجرة الشهيرة ـ من البحار في
المياه العذبةـ لأسماك السلمون البالغة لوضع البيوض (رتبة Salmoni
formes)، والتي تطالعنا بها الصور التلفازية بقفزاتها ـ تصل إلي 3-4 متر ـ
بالغة الرشاقة والروعة والمرونة. تراها باذلة الجهد الكبير ضد مساقط المياه
العاتية، وضد مشاكل سوء التغذية لا يصدها صاد عن غايتها واستمرار نسلها.
ذلك النسل من السلمون الصغير الذي يعود ببطء، وفي اتجاه تيار الماء، نزولا
إلي البحر في رحلة قد تستمر أربع سنوات. لكنه بعد بلوغه يعود ثانية لنبع
النهر العذب الذي فقس فيه سابقاً ليعيد دورة حياة جديدة. فمن غير الله
تعالي قد "ألهمها" ذلك؟.
- سمكة "أبو شوكة" (طولها 5-6 سم)،
لها تصرفات "غريبة"، فهو من بين قيل من الأسماك التي تصنع "عشاً" لها.
فللذكر براعة فائقة في بناء عش جحر من الرمل والحشائش والنباتات في المياه
الضحلة للبيض الذي تضعه الأنثى (300 بيضة). كما "لاصطياد" الضحية بطريقة
"مبتكرة" "هدي الله تعالي بعض الأسماك لتكوين "أعضاء ضوئية" تتألق في
الظلام وتبرز منها "أشعة ضوئية" تظهر فوق خطمها، فيجتذب الأسماك الصغيرة
نحو فكين فاغرين مستعدين لالتهامها.
صور من عالم البرمائيات والزواحف
- الضفدع "الحداد"، بل "صانع الفخار"
في (أمريكا الجنوبية)، يصنع إناء من الطين (10X30سم) علي مدي 2-3 ليالي،
لينادي بعدها علي أنثاه لتضع البيض ـ في آمان ـ داخله.
- من الساحل البرازيلي تهاجر سلاحف البحر الخضراء البرازيلية (Chelonia mydas)
للتكاثر قاطعة مسافة 2500 كم عابرة المحيط الأطلسي نحو السواحل الإفريقية،
وعند جزيرة Ascension تضع بيضها ومن ثم تعود إلي موطنها دون أن تضل
طريقها. ويحار العلماء في تفسير تلك الرحلة العجيبة، فهل تترك السلحفاة
رائحة معينة تهتدي بها حال عودتها، أم تسترشد بالتضاريس البحرية، أم بزاوية
معينة للشمس بالنسبة للأرض، أم ببوصلة مغناطيسية؟، أم هو "طريق آمن"؟. من غير الله تعالي هداها سبلها؟.
صور للسلحفاة البرازيلية الخضراء
- للحرباء مهارة
فائقة في التنكر والتخفي وتغيير لونها (لتصبح بلون صخرة أو جذع شجرة الخ)،
ورزقها الله تعالي عينين تتحركان مستقلتين عن بعضهما البعض.
صور من عالم الحشرات
- الحشرات من أكثر الأحياء انتشارا
علي سطح الأرض فقد ألهمها الله تعالي مقدرة علي البقاء والتأقلم والتكوين
البنيوي والتكاثر ومنازلة الخصوم الخ. ينخر "الزنبور" بإبرته السامة في
المركز العصبي "للجندب النطاط" بحيث "يخدره"، ويُفقده وعيه، فلا يستطيع
الفرار، كما لا يسبب هلاكه، فيبقي لحما محفوظا تبيض عليه الأنثى، ومن ثم
تغطي الحفرة وتموت. بعد أن تكون قد وفرت الغذاء لصغارها قبل أن يولدوا،
وهكذا الحال مع كل الزنابير منذ أن خلقهم الله تعالي ، فأعظم به من خالق سبحانه وتعالي.
- تماماً في 24 مايو من بلوغه السنة
السابعة عشر من عمره، تري ذلك الجراد البالغ ـ في ولاية "نيو انجلاند"ـ
عادة ما يغادر شقوقه المظلمة تحت الأرض، فيظهر بالملايين في ذلك التوقيت .
- حشرة" أبي دقيق" عادة لا تتغذي علي
أوراق الكرنب، بل تختاره ـ دون غيره ـ لتضع عليه بيضها، ومن ثم تخرج
الديدان الصغيرة وتأكل من تلك الأوراق المناسبة لها، فمن أودع في تلك
الحشرة "مهارة" حسن اختيار الغذاء المناسب لديدانها؟.
- من الذي "هدي" البعوضة لقوانين
"ارشميدس" في الطفو، فنجدها تزود كل بيضة من بيوضها بكيسين من الهواء كي
تطفو بهما علي سطح الماء؟ (.
- للنحل والنمل في بناء بيوته المعقدة
الإنشاء، البالغة الدقة، ذات الغرف والدهاليز والمخازن والبدرومات، "هداية
ربانية" لقوانين الهندسة المعمارية. فضلا عن نظام العمل الاجتماعي
التعاوني المدهش في تلك الخلايا. فلسبعة أمتار قد يصل ارتفاع عش النمل
الأبيض، ونحو 30 ألف بيضة في اليوم من "الملكة"، وما سيتتبعه من بناء غرف
جديدة لتسع هؤلاء القادمين الجدد من النمل، فأي هداية وأي جهد وعمل دؤؤب
مبذول؟. وهذه حشرة "الترميت" الإفريقية تبني بيوتا كالقباب والتلال
والمسلات وتزودها بقنوات وفتحات خاصة كي يرتفع الهواء الساخن لأعلي ليحل
بدلا منه الهواء البارد من أسفل. إنه بين رائع من حيث تكييف الهواء Air
conditioningة.
صورة للخلايا التي يصنعها النحل وتظهر الهندسة السداسية العجيبة فتبارك الله أحسن الخالقين
- العناكب ليست حشرات لكونها تمتلك
ثمانية أرجل، وللحشرات ستة فقط، وجسم العناكب مكون من قسمين وليس ثلاثة،
لكن لا يغيب عن البال النسق البارع "لشبكة’" خيوط بيت العنكبوت "أقوي من
الفولاذ، ولزجة تلتصق بها الفرائس من الحشرات". تلك الخيوط تخرج من عضو
"المغزال" في مؤخرة الجسم. بيد أن بيت العنكبوت كبيت من أتخذ من دون الله